سورة المطففين - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المطففين)


        


قوله تعالى: {ويل للمطففين} قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية. وقد شرحنا معنى الويل في [البقرة: 79]. وقال ابن قتيبة: المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن مملوءاً. وقال الزجاج: إنما قيل: مطفِّف، لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه.
قوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس} أي: من الناس. ف {على} بمعنى من في قول المفسرين واللغويين. قال الفراء: على، ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك، كيلاً، وإذا قلت: اكتلت منك، فهو كقولك: استوفيت منك. كيلاً. قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا، ولم يَذْكُرْ إذا اتَّزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر {وإذا كالوهم} أي: كالوا لهم {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم {يُخسِرون} أي: ينقصون في الكيل، والوزن. فعلى هذا لا يجوز أن يقف على كالوا ومِنَ الناس من يجعل هم توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على كالوا والاختيار الأول. قال الفراء: سمعت أعرابية تقول:
إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكليلنا المدَّ والمدِّين إلى الموسم المقبل.
قوله تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟!} قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن {ليوم عظيم} يعني به يوم القيامة {يوم يقوم الناس} منصوب بقوله تعالى {مبعوثون}. قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين. ومعنى: يقوم الناس، أي: من قبورهم {لرب العالمين} أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه، وقيل: يقومون بين يديه لفصل القضاء. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه» وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل: وذلك إذا خرجوا من قبورهم.


قوله تعالى: {كلا} ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا. وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء. وكان أبو حاتم يقول: {كلا} ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً {إن كتاب الفجار} قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم {لفي سجين} وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. وروي عن مجاهد قال: {سجين} صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم.
والثاني: أن المعنى إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن.
والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة.
والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: {وما أدراك ما سجين} هذا تعظيم لأمرها. وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قوله تعالى: {كتاب مرقوم} أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم، أي: مكتوب. قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب، قال أبو ذؤيب:
عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا *** ةِ يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
وأنشده الزجاج: يَذْبِرها بالذال المعجمة، وكسر الباء. قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي كتبت. وذبرت بالذال أتقنت ما حفظت. قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم. وقال ابن قتيبة: يروى يزبرُها ويذبرُها وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبرُه، ويزبرِه. وذَبره يذبرُه، ويذبِره. وقال قتادة: رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به.
قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} هذا منتظم بقوله تعالى: {يوم يقوم الناس} وما بينهما كلام معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: {بل ران على قلوبهم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر {بل ران} بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم {بل ران} مدغمة بكسر الراء. وقرأ حفص عن عاصم {بل} بإظهار اللام {ران} بفتح الراء. قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران. قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى. ويقال: ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غنياً، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن {كلا بل ران} وفي الحديث «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب بالغين، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما.
قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم. قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب.
قوله تعالى: {كلا} أي: لا يصدِّقون. ثم استأنف {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يَرَوْنه بالرضى. وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرى في القيامة. ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم. ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى {ثم إنهم لصالوا الجحيم}.
قوله تعالى: {ثم يقال} أي: يقول لهم خزنة النار: {هذا} العذاب {الذي كنتم به تكذبون. كلا} أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محل {كتاب الأبرار} فقال تعالى: {لفي عليِّين} وفيها سبعة أقوال.
أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد.
والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة. وقال مقاتل: ساق العرش.
والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك.
والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن. وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع.
والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {وما أدراك ما عليُّون} هذا تعظيم لشأنها.
قوله تعالى: {كتاب مرقوم} الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.
قوله تعالى: {يشهده المقربون} أي: يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين. وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: {ينظرون} وفيه قولان:
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون.
قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} وقرأ أبو جعفر، ويعقوب، {تُعرَف} بضم التاء، وفتح الراء {نضرةُ} بالرفع. قال الفراء: بريق النعيم ونداه، قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور. وفي الرحيق ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال. أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد. والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش. والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل. والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة.
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن.
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج. وفي قوله تعالى {مختوم} ثلاثة أقوال.
أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود.
والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد.
والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: ختامه مسك، أي: عاقبته. هذا قول أبي عبيدة.
{ختامه مسك} قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة {ختامه} بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعه الميم. وقرأ الكسائي {خَاتَمه} بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة. وروى الشيزري {خَاتِمه} مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو العالية: {خَتَمه} بفتح الخاء والتاء وبضم الميم من غير ألف.
وللمفسرين في قوله تعالى: {ختامه مسك} أربعة أقوال.
أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد.
والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس.
والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة.
والرابع: أن آخر طعمه مسك قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين.
قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتنافس: كالتشاحّ على الشيء، والتنازع فيه.
قوله تعالى: {ومزاجه من تسنيم} فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين.
والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك. قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصبُّ عليهم انصباباً، فيشربون الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة. ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو. وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور. وهذا أعجب إليَّ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة:
كَأَنَّ بِرِيقَتِها لِلْمِزَا *** جِ مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً
أراد كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلاً. قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف. ف {عيناً} في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: {أو إطعامٌ في يوم ذي مَسْغَبَة يتيماً} [البلد: 15] ويجوز أن تكون {عيناً} منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً، أي: من عين. وقد بينا معنى {يشرب بها} في [هل أتى: 6].


قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} أي: أشركوا {كانوا من الذين آمنوا} يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم {يضحكون} على وجه الإستهزاء بهم {وإذا مرُّوا} يعني: المؤمنين {بهم} أي: بالكفار {يتغامزون} أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم {وإذا انقلبوا} يعني الكُفار {إلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي: متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر {فكهين} بغير ألف. وقد شرحنا معنى القراءتين في [يس: 55] {وإذا رأَوْهم} أي: رأَوْا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {قالوا إن هؤلاء لضالون} يقول الله تعالى {وما أُرسلوا} يعني الكفار {عليهم} أي: على المؤمنين {حافظين} يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم {فاليوم} يعني: في الآخرة {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار. قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون. {على الأرآئك ينظرون} إلى عذاب عدوِّهم. قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون. فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى.
قوله تعالى: {هل ثُوِّب الكفار} وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو {هل ثوب} بإدغام اللام. أي: هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير.